‫الرئيسية‬ شعر و خواطر سهام/بقلم الكاتبة : إنجى الحسينى
شعر و خواطر - 2020-06-17

سهام/بقلم الكاتبة : إنجى الحسينى

( من المجموعة القصصية : حكاية ريال فضة)

سهام تبدو من ملابسها كفتاة عادية من أسرة متوسطة، تميل للسمنة قليلًا، ملامحها طفولية، فوجهها مستدير ذو عينين سوداوين ضيقتين و أنف وفم صغير، كانت سهام تطرح الكثير من الأسئلة بهدوء، فصوتها دائما هادئ كابتسامتها التى يبدو فيها ملامح حزن تحاول إخفاءه.

سمحت الرحلة رغم قصر مدتها بالتقارب بيننا وبمجرد رجوعنا للقاهرة  أتفقنا على اللقاء لتناول طعام السحور، فسهام ليس لديها أصدقاء تستطيع الخروج معهم.

وافقت بترحاب حتى أقضي على الملل الذى أشعر به من وقت لآخر فأقتراح سهام جاء فى الوقت المناسب .

خيمت الأجواء الرمضانية على مجلسنا، وبعد أن انتهينا من تناول السحور تحدثت سهام قائلة : أنا الأبنة الصغرى والمدللة بين أخوتى، أنجبتنى أمى فى سن كبير ومن ثم فقد تعمدت تدليلى وتمييزى خاصة عندما مات أبي وأنا عمرى سنتين، ومن هنا زاد شعورها بأنها  قد تتركنى وحيدة فى أى وقت، خاصة أن أختى الوحيدة متزوجة ولديها أبناء فى سنى تقريباً ورغم المسافة الكبيرة بينى وبينها فى العمر إلا أن شعورها بالغيرة نحوى كان يزيد يوماً بعد يوم وهى تقارن بين معاملة أمى لى ولها .

أما أخواي فأحدهما لا يعيش إلا لنفسه بل إنه دائم اللوم والعتاب لجميع من حوله إذا أراد طلباً ولم يتم تحقيقه حتى استطاع الزواج بعد أن تسبب فى ارهاق أمى مادياً ، وبزواجه لم يتبق إلا أخى الأكبر وأنا ، الاثنان ذوا الحظ الأقل بالحياة.

قاطعتها وأنا أنظر إليها بشفقة : لماذا تقولين ذلك عن نفسك ؟! كلً منا لديه همومه وأحزانه.

ردت وقد كسا الحزن تعابير وجهها : كانت أمى على حق ، حينما قالت إن الدنيا ستكشر عن وجهها الأسود إذا ما رحلت عن عالمى، كم تمنت أن أتزوج  وهى على قيد الحياة حتى تطمئن على مستقبلى، فهى  تخاف أخوتى وبطشهم إذا لم يمهلها القدر لتفرح بي مع إنسان يسعدنى، وقد دفعنى شعورها بالقلق المتزايد إلى قبولى ذلك العريس.

كنت طالبة فى السنة النهائية بكلية التجارة عندما تقدم لخطبتى، فرحت كثيرًا وقتها، فعدم الشعور بالأمان كان ومازال هاجسًا يطاردنى، والحقيقة إنه عريس متميز، فهو شاب فى بداية الثلاثين، يعمل فى أحد البنوك وشكله مقبول.

أقامت أمى الولائم منذ اليوم الأول لزيارته لنا، ورغم سعادتى به إلا أننى لم أشعر براحة ما.

كان أحمد يصطحب معه عمه وأخته الوحيدة وزوجها والذى لم يترك صغيرة ولا كبيرة تتعلق بتفاصيل الزواج إلا وقد أبدى رأيه وكأنه هو كبير العائلة فالمفترض أن يتحدث العريس فى مواضيع الشبكة والجهاز  أو حتى عمه لأنه الأكبر سنًا وفى مقام الوالد.

تغاضيت عن الموضوع حتى يمر اليوم بسلام، فسعادة أمى والمجهود الذى بذلته من أجلي جعلنى أمرر الكثير والكثير.

ولكننى لم أتحمل اصطحاب أحمد لزوج أخته فى كل خروجه تقريبًا، وكثيرًا ما أعربت له عن تضايقي من الأمر خاصة وأن محور الحديث يدور دائما حوله ومعه.

ولكن أحمد كان يهدأنى بقوله : هو يحاول التقرب منك باعتباره أخًا كبيرًا وحتى تعتادى عليه وعلى أسرتنا.

تأففت وأنا أسأله عن أخته : وأين هى من قصة ارتباطنا ؟ لماذا لا تحاول توثيق علاقتها بي.

كان عذره واهيًا وهو يتحجج بانشغالها بالعيال ومن طبيعة شخصيتها الانطوائية.

وأكثر الأشياء غرابة حينما أتكلم مع خطيبى بالتليفون وأجده يترك الهاتف لزوج أخته كى يحادثنى هو بدلًا منه، مما أصابنى بحالة غضب شديدة وطلبت منه زيارتى بالمنزل وأكدت عليه أن يأتى بمفرده.

كنت أصرخ وأنا أسأله : أنا مخطوبة لمين بالضبط ؟ فهمنى !!

اجابنى بصوت خفيض : صوريًا سيكون الزواج منى ، فعلياً فسيكون منه هو ولذلك فهو يحاول التقرب منك.

زاد صياحى وأنا أتأمله باحتقار : وأنت مشكلتك ايه ؟

رد ناظرًا إلى الأرض: أنا لا يمكننى الزواج، وهو يريد مساعدتى وتحسين صورتى.

صرخت بشدة : وأنا يا ولاد الكلب ؟! هى بنات الناس لعبة ؟ ثم دفعته بعنف نحو باب الشقة وأنا أسبه بأقذع الشتائم.

وبمجرد خروجه أصابتنى حالة انهيار شديدة وبكيت حتى تورمت عيناى ولم أسكت إلا وأنا فى حضن أمى.

ومنذ ذلك الوقت وأنا أرفض الكثير من العرسان، فالصدمة الكبيرة جعلتنى أدخل فى دوامة من الأسئلة ومنها : لماذا ظن إننى سأقبل هذا الوضع القذر والمهين ؟وهل أنا ساذجة إلى هذا الحد ؟

لكن بعد فترة  تبدل حالى عند رؤيتى لسامح ببيت جارتى منال فهو صديق أخيها، وشعرت بانجذاب كبير نحوه منذ اللحظة الأولى ولاحظت إنه لا يرفع عينيه عنى ويلاحقنى بنظراته وأسعدنى ذلك كثيرًا، وسرعان ما تبادلنا الحديث وحدث بيننا انسجام  وتفاهم ملحوظ.

توقفت سهام وهى تقاوم دموعها : لقد أحببته يا كارمن ، أحببته من كل قلبي .

سألتها بحنان : وماذا حدث يا حبيبتى ؟

أستطردت كلامها قائلة : سامح إنسان عادى جدًا فى مظهره وملبسه، ولكنى شعرت معه بالسعادة وللأسف كان هذا الشعور مؤقتًا، فعلى الرغم من حنانه وكلامه الحلو إلا إنه إنسان ضعيف الشخصية، ابن أمه كما يقولون، لا يستطيع أن يعصي لها أمرًا، وحتى لا أخسره  توددت لأمه على نحو مهين ونسيت أن لى كرامة وبذلت مجهودًا كبيرًا لارضائها وكلما رأت منى تذللًا زادت هى من تكبرها وتحكماتها.

ولكن النهاية جاءت ونحن نشترى “غرفة النوم” فبعد أن أخترت واحدة، أصرت هى على اختيار أخرى وصممت بأن اللون البنى هو الأنسب والأقيم وهى تعلم أنى أرغب فى غرفة بيضاء، فعاندت وأخبرته إذا لم نشترى الغرفة التى اخترتها فليعتبر كل شئ منتهى، فاختار صف أمه بعد كل ما عانيته منها ومنه.

وبعد مرور شهرين ماتت أمى وتركتنى وحيدة ولم أعرف معنى الحب أو الحنان بعد رحيلها.

وهنا راحت سهام تبكى وهى تقول بصوت متقطع : وحشتنى جدًا.

ظلت تمسح دموعها التى لم تتوقف وهى تكمل كلامها : وبالفعل حدث ما توقعته أمى، أتت أختى وزوجها وأولادها الأربعة بحجة أنهم لا يجب أن يتركونى وحدنى، وأثقلونى بطلباتهم التى لا تنتهى رغم علمها بأن راتبي وراتب أخى يكفينا بالكاد.

وطوال فترة أقامتها لم تحاول المشاركة بمليم داخل البيت، حتى زوجها لم يحضر معه كيس فاكهة.

قاطعتها بحدة : ولماذا أستجبتِ لهم ؟

أجابت وهى تعاود البكاء: كانوا يهدوننى بأنهم سيطردوننى أنا ومحمود من الشقة، وعليه أضطررنا نحن الاثنان للعمل فى وظيفتين حتى نجمع أى مبلغ لها ولهانى أخى الثانى فى مقابل التنازل عن الشقة وهذا ما حدث ولكن طلباتهم دائمًا ما كانت مجابة خوفاً من غدرهم.

جففت عينيها وهى تقول : تخيلى يا كارمن، كانت تسلط أولادها كى أشترى لهم طلباتهم ،لدرجة أننى تركت لهم غرفتى ونمت على الأريكةولم تراعِ أختى ظروف عملى فأنا أطبخ وأكنس كالخادمة من غير أى مساعدة منها أو من بناتها ، واليوم الذى عادت فيه لبيتها كان من أسعد أيام حياتى .. سكتت قليلاً فشعرت بأن هناك شيئاً ما تتردد فى اخبارى به،فأخذت أطمأنها وأشجعها على الأستمرار فى الكلام.

قالت هامسة : جوزها … وسكتت

أكملت كلامها حتى أرفع عنها الحرج : حاول التحرش بك ، أليس كذلك؟

هزت رأسها بالإيجاب وهى تبكى ولم أحاول التهوين عليها إلا بالتزام الصمت احترامًا لأوجاعها، فأنا على يقين بأن استماعى إليها هو أكبر متنفس لآلامها.

وأخيراً سيطرت على أعصابها وقمت بتحويل دفة الحوار لموضوعات مختلفة منها ذكريات رحلتنا ومشاكل العمل ومتاعبه وتبارينا فى سرد قصص الأوغاد الذين نقابلهم يوميا فى حياتنا ومكائد الأصدقاء وأصحاب المصالح وغيرهم ووجدت هى فرصة جديدة لتبث شكواها من استغلال صاحب العمل لها.

وكان بديهيًا أن اسألها عن طبيعة عملها ، فعلمت بأنها مدرسة تخاطب لذوى الاحتياجات الخاصة، فهو عمل ذو راتب قليل إلا أن المشاعر والحب الذى تجنيه من هؤلاء الأطفال حب حقيقي غير مزيف لا يعكر صفوه إلا مدير المكان ومحاولته القاء كل الأعباء عليها.

هل تعرفين أنى أملك سيارة : قالتها بسعادة طفولية ثم أخرجت محمولها لترينى صورة عربتها.

رفعت حاجبي وقلت بصوت أجش : من أين لكِ هذا ؟!

قالت وهى تضحك من طريقة كلامى : أمى الله يرحمها أشترتها لى قبيل وفاتها.

عقبت قائلة : طبعا ، كان لازم أخوتك يشعرون بالغيرة منك.

طلبنا كوبين من الشاى وأنتهزت الفرصة كى اسألها عن أخيها الذى يعيش معها فردت مبتسمة : محمود يشبهنى فهوإنسان  طيب جدا، يعمل صباحًا كموظف بشركة الكهرباء،  وفى المساء يعمل على ميكروباص، كنت أتمنى أن يتزوج فقد تخطى الأربعين بقليل ولكن طلبات وطمع أخواتى أهم الأسباب التى أعجزته عن الأرتباط، ومن فترة لأخرى يعطينى بعض المال لكى أشترى ما أريد أو أسافر فى رحلة كالتى قمت بها.

ذكرتها بأمجد بك الذى وقع من على الحصان فضحكنا ونحن نستعيد ذكريات الرحلة وبعض أفرادها الذين تميزوا بخفة الدم.

*****

أنقطعت صلتى بسهام فترة طويلة واقتصرت العلاقة بيننا على بعض المكالمات من وقت لآخر، حتى فاجأتنى بخبر خطوبتها وصوتها يشع بالبهجة والسعادة، ولقد تكاسلت ولم أحضر الحفل، ومرت الشهور فطلبتها للاطمئنان عليها، فأحسست بخيبة أمل وهى تشكو خطيببها الطامع فى مرتبها الكبير بعد أن تدخل لتوظيفها بإحدى الشركات المعروفة.

حاولت تهوين الموضوع عليها ونصحها بعدم الاستعجال مادامت لا تشعر بالراحة والأمان، ولكن بعد فترة ليست طويلة اتصلت بى ثانية ودعتنى لحضور حفل زفافها.

وحضرت هذه المرة، كان حفلا بسيطًا، أجمل ما فيه هو العروس، فسهام جميلة جدا بملامحها البريئة وعينيها اللامعتين فرحًا، وفستانها أنيق يناسب جسمها وبدت فيه بمنتهى الرشاقة وهى تتمايل على أنغام الموسيقي، أما عريسها فيبدو أكبر منها سنًا بعشر سنوات على الأقل فالفارق فى السن واضح، فهو طويل القامة، ذو وجه مربع وشارب كث وشعر أسود غزير كالهنود.

اقتحمت حلقة الرقص وأحتضنت سهام بسعادة بالغة، فلربما كانت العلاقة بيننا غير قوية ولكنها علاقة مريحة بين أثنين لا يربطهما رابط ويودان بعضهما بلا سبب، لم أفوت الفرصة واشتركنا معًا فى رقصة طويلة على أنغام أحد الأغنيات الشهيرة.

*****

ضعفت العلاقة بينى وبين سهام بمجرد زواجها، وداومت على الاتصال بها على  فترات متباعدة، وشعرت من محور كلامها بالحزن، فتأكدت من إنها لم توفق فى اختيارها، ولربما كانت الوحدة هى سبب تعجلها.

حتى وقع لها ذلك الحادث الأليم والذى كان حديث الشارع وقتها، بكيت مرارًا وأنا أتذكر وجهها الملائكى يوم زفافها وقررت زيارة بيتها لأول مرة، وقابلت محمود أخوها، والذى بدا كرجل عجوز بوجهه الذابل وذقنه التى تركها بلا تهذيب.

سألته وأنا أبكى : ماذا الذى حدث وأين كنت من كل ما جرى لها يا أستاذ محمود؟

رد ذاهلًا كمن لم يصدق نفسه بعد : كان دائم الضرب لها يا هانم ،واتحملت المسكينة الكثير علشان بيتها و الطفل اللى فى بطنها، صحيح أنا راجل غلبان لكن أنا سندها وليس لى أحد بالدنيا غيرها، كنت أتمنى لو إنها وثقت في وأخبرتنى بتصرفاته معها، كنت سأوقفه عند حده، حتى لو أتطلقت، كانت هاتعيش لأبنها وتكمل حياتها علشانه زى ستات كثيرة دلوقتى !

وقف وهو يشير لأركان بيته : أنا أصبحت وحيد فى هذا المكان الكبير من غير أنيس ولا ونيس.

نظرت إليه وبكيت بحرقة وأنا أتذكر كلماتها : “الاثنان ذو الحظ الأقل “، كانت المسكينة تتعرض للضرب على يد ذلك الوحش الذى تزوجته، وكان يحبسها ويمنعها من الخروج إذا عصت له أمراً، وللأسف استسلامها له هو ما شجعه للاستمرار فى تشويهها وتعذيبها حتى لقيت منه ضربة قتلتها هى والجنين الذى بين أحشائها.

‫شاهد أيضًا‬

الماندلا ضمن فاعليات دبلوم إعداد المرشد التربوي

متابعة شعيب زكريا بجو حماسي وتنافسي رائع انطلقت مسابقة رسم الماندلا ضمن فاعليات دبلوم إعدا…