*مفهوم التوكل*

أمر الله سبحانه وتعالى العبدَ بالتوكلِ عليه وحده، فالتوكل على الله عز وجل هو سِمةُ العبد الصادق، وبه أمر الله الأنبياء والمؤمنين…

التوكل:

هو صدق اعتماد قلب المسلم على الله سبحانه في استجلاب المصالح، ودفع الضرر من أمور الدنيا والآخرة، وتوكيل جميع أموره إليه، وإيمان العبد إيماناً جازماً بأنَّه لا يُعطي إلا الله، ولا يَمنع إلا الله، ولا يَنفع غيره سبحانه، ولا يَضر سواه. قال سعيد بن جبير: (إنَّ التوكل جِماع الإيمان)، وقال وهب بن منبه: (غايةُ المؤمن القصوى التوكل)، وقال الحسن: (معنى توكل العبد على الله أن يعلم العبد أنَّ الله هو ثقتهُ).

فالتوكل على الله دليلُ صحةِ إيمان العبدِ وصلاح قلبهِ، وهو اعتراف العبد الكامل بربوبية الله، وتسليمه كل أموره للخالقِ الواحد، المتصرف بجميعِ أمورهِ، والمدبر الوحيد لأحوالهِ، صغيرها وكبيرها

تحقيق التوكل لدى العبد لا ينافي السعي والأخذ بالأسباب، التي قدَّر الله عزّ وجل المقدورات بها، وجرت سنة الله في خلقهِ بذلك، فالله سبحانه وتعالى أمر العبد بالأخذ بالأسباب

ويغفل الكثير من الناس عن التوكل على الله سبحانه وتعالى، ويقفون على الأسباب الظاهرة المحيطة بهم، ويُتعبون أنفسهم بالأخذِ بالأسباب، ويجتهدون غايةَ الاجتهادِ، ومع هذا كله لا يأتيهم إلا ما كتبهُ الله وقدَّرهُ لهم، ولو أنَّهم إلى جانب أخذهم بالأسباب حققوا التوكل على الله سبحانه بقلوبهم لساق الله إليهم أرزاقهم، مع أدنى وأصغر سببٍ.

كما يَسوق للطيور أرزاقها بمجردِ الغدو والرواح وهو سعيٌ للرزقِ يسير

ولذلك على المسلم أن يتذكر :

ليس هناك تعارضٌ بين التوكّلِ والأخذ بالأسباب.

يجب على المسلم الأخذ بالأسباب، وإن كانت في نظرهِ ضعيفة في نفسها أو ليس لها تأثيرٌ، فهذه السيدة مريم عندما أراد الله سبحانه أن يُطعمها، أمرها سبحانه بهزِ جذعِ النخلةِ، فأخذت بالأسبابِ رغم ضعفها.

روى معاذ بن جبل فقال: (كنتُ ردفَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على حمارٍ يقال له عفيرٌ، فقال: يا معاذُ، هل تدري حقَّ اللهِ على عبادِه، وما حقُّ العبادِ على اللهِ.

قلت: اللهُ ورسولهُ أعلمُ، قال: فإنَّ حقَّ اللهِ على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحقُّ العبادِ على اللهِ أن لا يعذبَ من لا يشرك به شيئًا. فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، أفلا أبشر به الناسَ؟ قال: لا تبشِّرهم فيتَّكلوا). صحيح مسلم

عدم الاعتماد بشكلٍ أساسي وقاطعٍ على الأسباب فقط، وإنَّما يعتمدُ المسلمُ في البداية والنهاية على الله سبحانه، مع أخذهِ بالأسباب، فالله يُقدّر الأمور بأسبابها.

يتحقق التوكل بمعرفةِ المسلم أنَّ بتوكلهِ هذا ينالُ رضا الله سبحانه ومحبته، قال تعالى:

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } [ سورة آل عمران : 159 ]

ويُجازى المتوكل بالجنة، والتي هي أسمى أماني المؤمن، قال تعالى:

{ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصّٰلِحٰتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهٰرُ خٰلِدِينَ فِيهَا ۚ نِعْمَ أَجْرُ الْعٰمِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلٰى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) }
[ سورة العنكبوت : 58 الى 59 ]

يتحقق التوكل بشعور العبد بضعفهِ، وفقرهِ، وحاجته لله سبحانه وتعالى، فمهما بلغ من أسباب القوة يبقى ضعيفاً، ويحتاج إعانة الله له في أمور حياته، وفي التغلب على مصائبهِ، وكروبهِ، قال تعالى:

{ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفٰى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
[ سورة الأحزاب : 3 ]

حديث عمر  قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً[1]، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

يُعتبر هذا الحديث الشريف أصلاً في التوكل، وهو من أعظم الأسباب في جلب الرزق.

فلو أنَّ العبد حقق التقوى والتوكل، وأخذ بالأسبابِ، في كل شأنه، فإن أمور حياته الدنيا والآخرة تتحقق بسهولةٍ ويُسرٍ له، فكم من عبدٍ فوّض أمره لله كفاه الله ما أهمه.

قال الله عز وجل:

{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهٰدَةَ لِلَّهِ ۚ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْءَاخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓ ۚ إِنَّ اللَّهَ بٰلِغُ أَمْرِهِۦ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا (3) }
[ سورة الطلاق : 2 الى 3 ]

 

*صور من التوكل على الله توكل*

النَّبي -عليه الصلاة والسلام- عندما هاجر من مكة المكرمة إلى المدينةِ المنورة، وكانت قريش تتبع أثر الرسول وصاحبه أبي بكر. قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: (أنَّ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ حدَّثه قال: نظرتُ إلى أقدامِ المشركين على رؤوسِنا ونحن في الغارِ. فقلتُ: يا رسولَ اللهِ! لو أنَّ أحدَهم نظر إلى قدمَيه أبصَرَنا تحت قدمَيه. فقال: يا أبا بكرٍ، ما ظنُّك باثنَين اللهُ ثالثُهما) متفق عليه

وفي ذلك يقول :

{ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصٰحِبِهِۦ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلٰى ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِىَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ سورة التوبة : 40 ]

توكُل نوح عليه السلام عندما دعا قومه لعبادة الله وحده، فكذّبوه.

قال تعالى:

{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِۦ يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِـَٔايٰتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوٓا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوٓا إِلَىَّ وَلَا تُنظِرُونِ }[ سورة يونس : 71 ]

توكُل الرسول وأصحابه على الله عندما مرَّ ركبٌ، وهم بحمراء الأسد، وأخبرهم بأنَّ أبا سفيان جمع لهم.

قال تعالى :

{ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمٰنًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوٓءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوٰنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) }
[ سورة آل عمران : 173 الى 174 ]

 

اترك رد

‫شاهد أيضًا‬

أيمن بكري يكتب أُسس التوافق و الخلاف الأسري

بقلم / أيمن بكري  تمعنت كثيراً في الحقب الزمنية المختلفة مقارناً بين سلوكيات العامة في الع…