داخل المستشفيات يتشارك المرضى وذويهم مع بعضهم البعض الأحاديث عن الأمراض والأصابات المختلفة، أما داخل مستشفيات العزل يختلف الحديث ويقتصر على مرض كورونا المستجد (كوفيد- 19).

في أحد أيام شهر يوليو / تموز، وفي ساحة الانتظار تجلس “بسنت” ووالدتها داخل إحدى مستشفيات العزل، بعد إصابة والدها بمرض كورونا (كوفيد-19) وحجزه بالمستشفى، وفي أثناء حديثهما مع بعضهم البعض تدخل إلى أطراف الحديث أحد المحيطين بهم، وبدأت “سيدة” بالكلام مباشرة : سوف ينجو برحمة الله لا تقلقوا.

انتبهت “بسنت” والدتها لها، وأكملت “السيدة” حديثها :
أشعر جيداً بكم وأدرك صعوبة الأمر، فالعزل وعدم اللمس والبُعد بهذا الشكل المفاجئ وبدون مقدمات هو أصعب إحساس في الوجود سواء كان للمريض أو لأهله، لكن قادر رب العالمين أن يخفف عنكم وينجيكم جميعاً من هذا البلاء.

تكلمت “والدة بسنت” والحزن يملؤها : ونعم بالله رب العالمين، لا أعلم كيف وأين بدأ الأمر، على الرغم من إتباعنا الإجراءات الاحترازية جميعاً، ولم نكن نخرج أبداً، ولكن اضطررنا للخروج ذات يوم لإجراء ومتابعة بعض الفحوصات الطبية، وبعدها حدث ما حدث فجأة.

صمتت “والدة بسنت” بعد أن ملئت الدموع عينيها، وتحدثت “السيدة” قائلة:

مقدر ومكتوب وكله بأمره سبحانه وتعالى، أنا وزوجي أيضاً مكثنا في البيت عدة أشهر ولحكم السن خوفنا على أنفسنا، ولكن للضرورة أحكام، خرجنا ساعة زمن نقضي مصلحة وعودنا إلى البيت، وبعد عدة أيام قليلة، أشتد التعب على زوجي وذهبنا إلى الطوارئ، كان الخبر مثل الصاعقة عندما قال الطبيب أنه مصاب بمرض “كورونا” وسيتم حجزه داخل مستشفيات العزل.

توقفت “السيدة” عن الحديث قليل عندما خانتها دموعها وانهمرت فجأة، وأكملت:

على الرغم من أننا كنا سوياً، لكني لم أصيب بذلك المرض اللعين، وهذا من فضل الله ورحمته، لكي أعينه على ما هو فيه من شدة واحتياج، واليوم سوف يخرج زوجي لي سالماً معافى.

الحمد والشكر لله ربنا يطمنك ويبشرك، قالت هذه الكلمات سريعاً “بسنت” وهي في حالة من التفاؤل والبشرى لوهلة، ولكن عادت لحالة والدها وقالت لحظة الكشف على والدي وإخبارنا بالوضع لم أتمالك نفسي انا ووالدتي وخاصة عندما قال الطبيب يجب أن تخرجوا فممنوع التواجد داخل الغرفة، كانت أصعب لحظة مرت علينا جميعاً وأصعب يوم مر في حياتنا، فجأة وبدون مقدمات بعدما كنا نتعايش بشكل طبيعي ونجلس سوياً في غرفة واحدة، أصبح ممنوع علينا التواجد في مكان واحد، وأصبح ممنوع علينا الإقتراب واللمس، والأصعب هو إحساس العجز والإنكسار وهو في أمَس الحاجة إليك، لم أشعر بهذا الإنكسار من قبل، ياااارب لطفك ورحمتك بعبادك يااارب إرفع عنا هذا الوباء اللعين.
دعت “بسنت” بهذا الدعاء بعدما توجهت بنظرها الى السماء سريعاً لكي تتماسك ولا تبكي أمام والدتها.

أمنت “والدة بسنت” و “السيدة” على دعاء “بسنت”، وقالتا اللهم آمين، وعمَّا الصمت قليلاً.

عاد الحديث بسؤال “السيدة” بإستنكار وتعجب: ولكن لماذا أري في الأيام القليلة الماضية العديد من الناس بل يكاد الجميع لم يطبقوا الإجراءات الاحترازية ولم يلتزموا بها، أرى التزاحم في كل مكان وأرى الكثير بدون ماسك الوجه (الكمامة)، لماذا ذلك الإهمال في أنفسهم !؟ فيروس كورونا لم ينتهي بَعد ولم يتم اكتشاف مصلاً له فلما عدم المحافظة على أنفسهم وعلى ذويهم !؟

ردت “والدة بسنت” قائلة : التقليد والملل والاستهتار وعدم الإحساس بالمسئولية حتى تجاه أنفسهم.

نظرت لها “السيدة” نظرة استفهام، وكأنها تطلب منها أن توضح أكثر.

فتابعت “والدة بسنت” قائلة : دائماً نريد التقليد والمقارنة في كل شىء، لا أحد يُقلد الصواب إلا العقلاء، أما الأغلبية تُريد التقليد الأعمى الخاطئ بدون وعي وإدرك، أما الملل فذلك نتيجة للغلق الذي دام ما يقارب من أربعة أشهر، وبمجرد فتح الحظر وتسير الأمور في العديد من النواحي والمجالات، ظن الناس وهماً بأن كورونا قد انتهت، وأصبح لديهم استهتار شديد حتى تجاه أنفسهم، ولكن في كل الأحوال يجب المحافظة وإتباع الإجراءات الاحترازية حتى ولو لم يلتزم بها الجميع، بل حتى لو لم يتم فرض القانون ودفع الغرامة، يجب أن نلتزم من أنفسنا خوفناً على أنفُسنا وعلى ذوينا من هذا الفيروس الخفي اللعين.

ولكن يا أمي آلا تلاحظين أننا نتحدث ونحن الآن داخل مستشفى العزل، ولقد أُصبنا بهذا الفيروس بالرغم من إلتزامنا فكيف ذلك !؟ تسائلت “بسنت” في تعجب وحيرة.

ردت “السيدة” ونظرها متجه إلى “والدة بسنت” تسمحلي بالإجابة ؟
قالت “والدة بسنت” بالطبع تفضلي.

نظرت “السيدة” إلى “بسنت” وقالت لها: يا بُنيه يجب أن نأخذ بالأسباب ونسلم الأمر لرب العالمين، ولنؤمن يقيناً بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

شعرت “السيدة” بأن “بسنت” تتسائل داخل نفسها وتقول: طالما لن يصيبنا إلا المكتوب فلما ارتدي الكمامة ؟

تابعت السيدة حديثها وأجابت عن التساؤل: يجب أن نأخذ بالأسباب ونسعى أولا وسأحكي لكي حديث عن سيدنا النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً جاء إلى النبي -صل الله عليه وسلم- ومعه ناقته فقال: أعقلها وأتوكل، أم أتركها وأتوكل؟ فقال له النبي -صل الله عليه وسلم- : اعقلها وتوكل. أي اربطها وتوكل، والرد واضحاً فقد دعاه الرسول -صل الله عليه وسلم- لأن يأخذ بالأسباب أولاً، ويعد عدته ويخطط لرحلته، لذا يا بُنيه يجب علينا أن نأخذ بالأسباب أولاً في أي فعل أو عمل، ثم نتوكل على الله، ندعوه وننتظر معونته سبحانه وتعالى.

وانتهي حديثهما بـ نداء الممرضة على “بسنت والدتها”، لمتابعة الكشف وعمل الفحوصات الخاصة بمرض كورونا المستجد (كوفيد-19).

? دمتم سالمين ومعافين?
✍? بقلم :- بسمه باشا.

اترك رد

‫شاهد أيضًا‬

أيمن بكري يكتب أُسس التوافق و الخلاف الأسري

بقلم / أيمن بكري  تمعنت كثيراً في الحقب الزمنية المختلفة مقارناً بين سلوكيات العامة في الع…